السبت، 16 أغسطس 2014

الدين الإسلامي ثورة العقول - الحلقة الرابعة


التأويل منطق العقل السليم !
 
 
 
إن منهج التأويل ، منهج استنطاق آيات الكتاب ما هو إلا آلية استبدال لمنطلقات الإنسان الفكرية و تحويلها من الهوى إلى الهدى ، فالعقل جُبل ليعمل وفق مبادئ التأويل إلا أنه يرجع متشابه الموقف إلى محكم الذاكرة عبر الأشباه و النظائر ليتمثل في كل موقف لفكرة من الأفكار الراسخة في ذاكرته ، فجرب مثلاً أن تعرض أحد مشاكلك سواء الإجتماعية أو مشاكل العمل على شخصين ، شخص وقع في المشكلة و آخر لم يواجهها في حياته ، مثال :

أنت تريد شراء سيارة من شركة معينة ، وذهبت لتسأل شخص قام بتجربة هذه السيارة ، ستلاحظ أنه بمجرد سؤالك له عن هذه السيارة (المتشابه) فوراً سيقوده عقله إلى النظير (المحكم) في ذاكرته وهي تجربته الشخصية مع السيارة ، فيبدأ بسرد السلبيات و الإيجبيات و قد يفتح إلى جانب ملف تجربته النظيرة ملفاً آخر لشخص قد قام هو بسؤاله قبل أن يشتري السيارة فإما أن يمثل هذا النظير الآخر وجهاً مغايراً لتجربة الشخص مثلاً ( الأول يعبر عن ارتياحه من قيادة هذه السيارة لأنها كبيرة في الحجم و واسعة من الداخل و مريحة ) و الآخر ( يشكو من السبب ذاته لأن الشارع الذي يسكن فيه ضيق و لا ستطيع أن يركن السيارة بسهولة ) فهي من وجه ممتازة ومن وجه آخر مزعجة ! فعندما يكون الشخص الذي تسأله حكيماً سيسألك عن احتياجاتك و ما تحبه ليعرف الوجه المناسب للفتوى و مآلها قبل أن يفتيك في الأمر ليقول ( إذا كنت تحب السيارة الواسعة و الكبيرة فهي ممتازة بالنسبة لك و إذا كنت لا ترتاح لقيادة سيارة بهذا الحجم والمنطقة التي تسكن بها شوارعها ضيقة سيكون اختيارها اختياراً سيئاً و إذا كنت كثير السفر فـ .... إلخ ) أو أن تصادق تجربة الشخص الآخر على الوجه ذاته .

وهذا ما يسمى في علم النفس بالذكاء المتبلر أي المبني على التجارب السابقة والخبرات و إمكانية الربط بينها لاستخلاص النتائج فتقود نظائر هذه التجربة إلى ما هو محكم بالنسبة لك لتبني عليه حكماً إما بالقبول أو الرفض أما لو سألت شخص لم يجرب هذه السيارة نهائياً و لا يعرف عنه أي معلومة عندها سيجيبك بـ( لا أعلم )  أو سيأخذ وقتاً لجمع المعلومات و الربط بينها ليُحكم أمره و يَحكم بعدها .

التأويل هي العملية ذاتها التي ذكرناها في النموذج السابق إلا أنه من سيتم سؤاله هذه المرة عوضاً عن الذاكرة و المكتسبات هو الله جل وعلا من خلال استنطاق آياته سواء آيات الكتاب أو آيات الكون  ! فالكون كالقرآن يتكون من آيات منها ما هو محكم و منها ما هو متشابه بدليل قوله ( سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) وبرد هذه الآية إلى الآية النظيرة ( منه آيات محكمات ... و أخر متشابهات ) ! حيث أن المتشابه هو ما اشتبه على جاهله كما وضح أهل البيت ع ، فيتم استقراء آيات الكتاب أو الكون أو كليهما معاً برد أحدهم إلى الآخر استقراءاً تاماً من خلال تتبع النظائر القرآنية لتنطق بالحق على السائل ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) .

ولو قارنا بين آلية عمل العقل في اتخاذ القرار و آلية التأويل ستجد أن كلاهما يعمل في اتخاذ القرار وفق إجراءات أربعة و هي ما يصطلح عليها بالدائرة التأويلية أو الدائرة الناسخة ، كما يمكننا ملاحظة أن أي خلل في أي إجراء من هذه الإجراءات الأربعة يمكن أن يؤدي غالباً إلى خلل في الحكم و اتخاذ القرار ! :

1- إجراء السؤال : و السؤال هو مفتاح العلم كما يروى عن أهل البيت ع ، فيقوم الباحث بتحديد الأمر المتشابه الذي يجهله و يريد السؤال عنه .

2- إجراء التتبع : حيث يقوم الباحث بتتبع الأشباه و النظائر التي تكون الوجوه  .

3- إجراء الإستنطاق : و هو الربط بين هذه الأشباه و النظائر من المعلومات لتكوين وبلورة الفكرة و القرار الناتج عن الوجوه المتظاهرة من خلال عملية التتبع فيحكم التشابه بلحاظ معين يناسب الموضوع المبحوث .

4- إجراء الترجمة ( الفتوى ) : وفيها يصدر الحكم النهائي للأمر المبحوث .

فإذا كان الإجراء الرابع يسد سؤل السائل يكتفي به و يتوقف و إذا تكون عنده سؤال جديد يعود المعنى المبحوث للتشابه مرة أخرى لينسخ التشابه و يستوضح المعنى ، وهكذا تدور الدائرة التأويلية ليحيط الباحث أكثر في المسألة فيعرف كيفية اتخاذ القرار و الحكم ، إذا فهي عبارة عن عبور إلى باطن المسألة و تدبر مآلها ( تأويلها ) .


لذلك ذم الله الظاهريين في القرآن بقوله (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون ) و بردها إلى آية نظيرة ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما ياتهم تاويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) و بهذا اللحاظ يمكن أن تحمل كلمة الظالمين على الوجه (ولكن كانوا انفسهم يظلمون ) فالحكم دون معرفة و إحاطة هي ظلم للنفس وللغير لأنه لا دراية فيه و لا معرفة فغالباً ما يتخذ القرار الخطأ كالأقوام الذين كذبوا الرسل من قبل ! .

وبعد معرفتنا بهذه الإجراءات لنحاول تطبيقها

1 ) على مستوى العلوم الكونية :

على سبيل المثال أضع معادلاً بسيطة جداً و منطقية

إذا كانت جـ = س و جـ = ص  إذا حتماً س = ص ، إذن أن التناظر في ( جـ ) يحكم بوجود علاقة تماثل !

إذا تناولنا مثالاً أكثر تعقيداً لنطبق عليه تلك الإجراءات

نفترض 3 معادلات رياضية قائمة على العلاقات التالية :

1) س - 2ص = 0

2) س + 1 = 5

3 ) ص = 6 جـ

ما هي قيمة جـ ؟

الجواب :

لنفكر في البداية في المسألة و نكتبها بصيغة جمل لتبسيط الأمر :

 

بناء على المعادلة الأخيرة  بأن ص تساوي 6 أضعاف جـ نستنتج أننا نستطيع معرفة قيمة جـ من خلال معرفة قيمة ص اذ إن قيمة جـ ستكون هي قيمة ص مضروبة في 6 كما يمكننا من خلال المعادلة الأولى أن نفهم بأن هنالك علاقة بين س و ص حيث أن س عندما نطرح منه ضعفي ص سيكون الناتج صفراً و الناتج يكون صفراً إذا طرحنا العدد من نفسه ، إذا نفهم أن س تساوي ضعفي ص لذلك يمكننا أن نعرف قيمة جـ من خلال قيمة ص و يمكننا أن نعرف قيمة ص من خلال قيمة س كما وضحنا في المثال السابق

 

نبدأ بالإجراءات الأربعة لنحل هذه المسألة

1 ) إجراء التساؤل : نبدأ بالسؤال الأول ما هو قيمة ص ؟ ( لكي أستطيع معرفة قيمة جـ )

2) إجراء التتبع : للمعادلة ( س - 2ص = 0 ) نظير آخر هو ( س + 1 = 5 )

3 ) إجراء الإستنطاق : اذا كانت (س - 2ص = 0) اذاً نفهم من السياق أن ( س = 2ص ) و بإعادة ترتيب المعادلة الثانية المعبرة عن سؤال ( ما هو العدد الذي اذا جمعناه مع الواحد نتج العدد  سنستنتج أن س =4   من السياق أيضاً .

4) اذاً مما سبق نستنتج أن 2ص = 4  مما يعني أن 4 تمثل ضعف س و هذا يعني أن ص = 2 !

 

و الآن بعد معرفة قيمة ص أصبح من السهل معرفة قيمة جـ فتدور الدائرة التأويلية مرة أخرى لتحكم ناتج جـ

1) إجراء التساؤل : ما هي قيمة جـ ؟

2) إجراء التتبع : نتتبع نظير المعادلة (ص = 6 جـ) المحكم و هو النظير الناتج في الدائرة السابقة أن ص=2

3)  إجراء الإستنطاق : يشير التناظر السابق أن هنالك علاقة تفسيرية  حيث 6 جـ = ص أي يساوي 2

4) إجراء الترجمة بحل المعادلة نستنتج أن جـ = الثلث !

 

هنا تقف الدائرة التأويلية بعد أن نسخنا تشابه المعادلة و أحكمنا ناتج جـ

 

الطريقة التي استخدمناها في المرة السابقة جداً بدائية في الحل فللمتمرس أن يوجد الناتج بشكل أسرع عن طريق تعويض بعض المعادلات في بعض من خلال رد النظير إلى الآخر

على سبيل المثال

اذا عرفنا من خلال المعطيات أن ( س = 2ص ) و ( س + 1= 5 )  إذا بتعويض المعادلة رقم 2 في 1 من خلال النظير س يمكننا أن نقول أن 2ص + 1 = 5 أي يمكننا أن نقرأ تلك المعادلات المتناظرة بعضها ببعض و ليس لعاقل أن يقول أن ( س + 1 =5 ) لا تساوي ( 2ص + 1 = 5 ) فالمعادلة تغيرت طريقة قراءتها لتعطي تفصيل معين أو لتمثل وجه وسيط يسهل حل المعادلة لكن المعنى ثابت لم يتغير أبداً .

كان هذا مثال بسيط لمعادلات مترابطة وضعتها للتوضيح و هنالك معادلات أكثر تعقيداً في الفيزياء مثلاً تترابط بالطريقة ذاتها و نستطيع من خلالها إيجاد المجهول عن طريق الجمع بين المعادلات النظيرة ، فالآيات الكونية الأكثر تعقيداً تترابط أيضاً بهذه الروابط .

لاحظنا في المثال السابق أن نظم الآية الكونية يسير وفق هذه الدائرة



إذا فقواعد التأويل إضافة إلى أنها مستقاة من منهج أهل البيت ع الطاهرين وعلى كل قاعدة من القواعد مجموعة أدلة تعضدها و تؤكدها ، أضافة إلى ذلك فهي قواعد بديهية بحتة تشكل منطق العقل السليم و طريقة التفكير السديدة ، و هذا ما يفسر قول الإمام الرضا ع : من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم .

 

2) على مستوى الخطاب القرآني :

كذلك عند استعراض و استيضاح آيات الخطاب القرآني من خلال القواعد ذاتها و من خلال مصادقة القرآن بعضه ببعض نحصل على نتيجة محكمة أو عدة نتائج ووجوه محكمة كلها صحيحة ، لنضرب هذا المثال :

( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين )

ما أريد معرفته على سبيل المثال هو :

من الذين أنعم الله عليهم ؟

من هم المغضوب عليهم ؟

 و من هم الضالين ؟

من خلال الإجراءات الأربعة التي شرحناها سابقًا يمكن الإجابة على السؤال الأول من خلال هذا النظير :

من الذين أنعم الله عليهم ؟

(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )

فيكون الجواب من خلال الآية السابقة هو : ( النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا )

و إذا تسائلنا من المغضوب عليهم يمكننا من خلال النظير (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم واعد لهم جهنم وساءت مصيرا )

أن نجيب بأن المغضوب عليهم : هم المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات الظانين بالله ظن السوء .

من هم الضالين ؟

يمكننا الإجابة من خلال النظير (إن الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم واولئك هم الضالون )

سنعرف من خلال هذا النظير أن الضالون هم الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً !

إذا ينتج لنا هذا البيان التفصيلي و التفسيري ليكشف عن وجه من وجوه الآية :

( اهدنا الصراط مستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا ، غير المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات و الظانين بالله ظن السوء و لا الذين كفروا من بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً ) !

و للآية وجوه ومعاني كثيرة لا متناهية وهو ما يمثل وجه الإعجاز في القرآن الكريم الذي يصدق بعضه بعضا فكما أن للذاكرة أن تحكم التجربة من خلال نظائرها المختزنة كذلك القرآن الكريم لينتج الشكل التالي الذي يمثل الإحاطة بالوجوه :
 
 

و إلى حلقة قادمة نتمنى أن نلقاكم على خير !

ليست هناك تعليقات: