الدين الإسلامي ثورة العقول 3
محكمة العقل !
يعاني مجتمعنا
الإسلامي من داء عضال كان و ما زال يستفحل و ينتشر انتشاراً سرطانياً في جسد هذه
الأمة ، فيزيده تهالكاً يوم بعد يوم ، ألا وهو محاكمة العقول ! ، نرى أن جميع
أنواع المعارف سواء في مجال العلوم التجريبة أو العلوم الكلامية تخضع الفكرة إلى
النقد و المناقشة و الرد بكل رقي ، لكن في المعارف الدينية الأمر مختلف تماماً ! و
إذا تتبعنا التاريخ سنجد أن أصحاب الفكر التجديدي مطاردون محاربون بأبشع الوسائل و
الطرق ، و ليتها كانت حروباً فكرية تناقش فيها الأفكار ، بل يتجاوز ذلك عبوراً إلى
الطعن بالشخص نفسه و التشكيك بنواياه .
و يا لشناعة المنظر و بؤس المشهد حين
تجد شخصاً ينظر و يفلسف لقضية رمي الآخرين من ملته بالإنحراف ، نعم فالأمر أصبح له
فنون و تطور عما كان عليه في الأمم السالفة البدائية في هذا المجال ، ترقى لطراز
جديد يواكب ما نحن عليه من تطور و تخلف في الوقت ذاته ، ففنون المحاكمة العقلية
باتت محكومة بأطر و أبعاد متدرجة و أنواع
، و كل هذا بعيد عن مراد الله المتجلي في كتابه الكريم الداعي إلى الفهم و
المناقشة و المحارب لأفعال الجاهلية المتمثلة بالسباب و الشتم و الاستهزاء و
التكبر و إن وجدت مناقشة فهي محكومة بمعارفهم و قواعدهم الشخصية التي يجب أن يلتزم
بها النبي أو حتى الوصي ! .
و مع أن القرآن الكريم فصل في هذه
المسألة أدق التفصيل و بين أكمل البيان إلا أن البعض يأبى إلا أن يقحم رأية في هذا
الموضوع على الرغم تصريح رب العالمين في كتابه قائلاً ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله
وهو أعلم بالمهتدين ) فالأعلم أحق يُسأل ! ، ولنا في نبي الله إبراهيم
المتدبر خير مثال حين تفكر في ديانة من يعبد الشمس و القمر و الكواكب و و نقدها و
فندها بما هو قطعي ! ، حتى النبي ص على الرغم مما وصل له من يقين إلا أنه كان
يستعمل أسلوباً راقياً في الحوار ( وأنا او
إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) فهذه الآية
كفيلة بأن تكشف لنا رقي النبي ص في حواره بجعل الدليل هو الحاكم و هو ما جعل
الكفار في موقف حرج فهم يفتقرون له ! .
و لو تدبرنا ما نقرأه من آيات في صلاتنا لفهمنا الكثير
من التفاصيل و توقفنا عن رمي الناس بالضلال و الإنحراف و انشغلنا بتقويم أنفسنا
ابتداءً ، فالقرآن الكريم يضع قاعدة أساسية ننطلق منها لطلب الحق ابتداءً بإيجاد
الصراط المستقيم وانتهاء بترك سبيل المغضوب عليهم و الضالين ( صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم و لا الضالين
) ما يشير إلى أن الصراط المستقيم هي منهجية معصومة تقوم الفهم و لنا أن نرجع إلى
أهل البيت ع ليبينوا لنا هذه المنهجية الداعية إلى الصراط المستقيم ، فقد ورد عنهم
ع : ( من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط
مستقيم ) فهذا المنهج و الأسلوب في التفكير القائم على عملية رد المتشابه
إلى المحكم هي العملية المثلى التي تتحصل بها الهداية إلى صراط مستقيم و ما سواها
سبل متفرقة ( وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) فلنتدبر بعض من قبسات الكتاب حول هذا
الجانب :
لنتدبر بعض من
ذكرهم الله كنماذج للـ(المغضوب عليهم و الضالين ) كالآية الكريمة ( وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم
المسكنة ذلك بانهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء بغير حق ذلك بما
عصوا وكانوا يعتدون ) نجدها تجرنا لمعرفة من اختار الصد عن سبيل
الله و محاربة الحق فهم الذين يقدسون و يطيعون ما تشتهي أنفسهم و يصدون عن الحق
الذي ينافي رغباتهم و أهواءهم ، حتى و إن أعلنوا إيمانهم إلا أنهم يحملون حسيكة
النفاق (ويعذب المنافقين
والمنافقات ... وغضب الله عليهم ولعنهم ) و الإيمان الكاذب
الذي سرعان ما يظهر بتقلب الأحوال و الفتن فيتظاهر في فلتات لسان بني اسرائيل
مثلاً حين عبروا عن رغبتهم لموسى ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على
قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم
تجهلون ) و سرعان ما تجلى شوقهم لموروثهم الذي ولدوا عليه و فضحوا ما تخفيه سرائرهم برغبتهم بإله جديد غير
الذي هلك - فرعون - عبارة عن صنم مادي ملموس يقدسونه و يعبدونه و يبدو أن السامري
قد لمس هذا الحب و الشوق لذلك التقديس و حقق رغبتهم حين غاب موسى ع عنهم فصنع لهم
عجلاً له خوار كما رغبوا هم و كانت النتيجة كما أراد السامري فعلاً ( قالوا سمعنا وعصينا واشربوا في
قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يامركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ) والتعبير(
أشربوا ) يدل على شدة حبهم وتعلقهم به فهو ما يرضي رغباتهم و أهواءهم و موروثهم و
مكتسباتهم السابقة فكانت النتيجة هي ذاتها التي تتكرر مع كل قوم يبعث لهم نبي و هي
أحد العقبات الكبرى التي تقف أمام الإنسان للإيمان و هي مكتسباته و موروثه الذي
يولد عليه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ، و نرى آيات
التوبيخ لهؤلاء كثيرة نذكر منها ( قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها
انتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ) فهذا الصنف
المغضوب عليه علاوة على رفضه للتخلي عن موروثه الخاطئ الذي لم ينزل الله به من
سلطان فهو يقيم أي دعوة جديدة وفق مقاييسه و أسسه هو لا كما يريد الله جل و علا ،
و الأدهى و الأمر من ذلك هو نسبة هؤلاء أفعالهم إلى الله و ان ما يقومون به هو
مراد الله منهم دون تدبر ولا تأمل تعالى الله عنهم علواً كبيرا ( وان منهم لفريقا يلوون ألسنتهم
بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند
الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) ، إذ لا حق إلا بآلة
الحق التي تعبر عن مراد الله عزوجل .
كذلك من عبر عنهم الله في كتابه ( إن الذين كفروا بعد ايمانهم ثم
ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ) فهم من آمنوا ثم
كفروا من بعد إيمانهم لعدة أسباب يرجع أصلها إلى الفسوق و عدم طهارة النفس ( و ما يضل به إلا الفاسقين ) و هي الأرضية
الخصبة لوساوس الشيطان ( ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدا ) فيستغل بعض نقاط
الضعف في النفس ليضل الإنسان عن ربه و عن دينه و الشواهد كثيرة في التاريخ ، نذكر
منها بلعم بن باعوراء الذي تعلم من اسم الله الأعظم ، و حين أغري بالمال أراد أن
يدعو به على حجة الله على عباده نبي الله موسى فدلع لسانه ، كذلك برصيصة العابد
مستجاب الدعاء الذي جره الشيطان للزنى و كانت هي مفتاح ضلاله ! و لو كان محصناً من
هذا الجانب لما جره الشيطان من خلال نقطة ضعفه هذه ، كذلك حب المال و السلطة و حب
الذات و غيرها من الأمراض النفسية - المتكونة أيضاً من مكتسبات الإنسان و غرائزه -
التي يتحرك الشيطان لتحفيزها و إظهارها لتكون دافعاً للضلال و الإضلال وهذا مصداق
للآية الكريمة ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم
الفاسقين ) فظلموا أنفسهم
بزيغهم ( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ) .
هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بزيغهم فعميت
أبصارهم فأصبحوا لا يفقهون ! (أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وختم
على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) لذلك حتى ولو
كانوا يلوون ألسنتهم بالكتاب فلي الألسن يكون بغير علم و لا هدى و لا دراية إنما
ابتغاء الفتنة و قلب الأمور لصالح إلههم الأوحد - الهوى - وينكشف هذا الأمر من
خلال تأمل الآيتين المتناظرتين ( فأما الذين في قلوبهم زيغ
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا
الله و الراسخون في العلم ...) ، (لقد ابتغوا الفتنة من قبل
وقلبوا لك الامور ) فيقلبون الخاص ليكون عاماً و يدفعون المحكم بالمتشابه ليحسبه الناس
أنه مراد الله و ما هو بمراد الله !
نستنتج من خلال
العرض السابق و استنطاق آيات الكتاب بأن تكليف الإنسان هو معرفة نفسه و إصلاحها و
السعي للصراط المستقيم بمعرفة المنهجية الضابطة الحقة اليقينية التي أراد الله من
عباده سلوكها و بها يجتنب سبل المغضوب عليهم و الضالين و يحاججهم على بينة فيبهتهم
كما بهت الذين كفروا من قبلهم .
و إلى حلقة قادمة نلتقي بكم على
خير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق