الجمعة، 8 أغسطس 2014

الدين الإسلامي ثورة العقول - الحلقة الثالثة


الدين الإسلامي ثورة العقول 3
محكمة العقل !
 
 
            يعاني مجتمعنا الإسلامي من داء عضال كان و ما زال يستفحل و ينتشر انتشاراً سرطانياً في جسد هذه الأمة ، فيزيده تهالكاً يوم بعد يوم ، ألا وهو محاكمة العقول ! ، نرى أن جميع أنواع المعارف سواء في مجال العلوم التجريبة أو العلوم الكلامية تخضع الفكرة إلى النقد و المناقشة و الرد بكل رقي ، لكن في المعارف الدينية الأمر مختلف تماماً ! و إذا تتبعنا التاريخ سنجد أن أصحاب الفكر التجديدي مطاردون محاربون بأبشع الوسائل و الطرق ، و ليتها كانت حروباً فكرية تناقش فيها الأفكار ، بل يتجاوز ذلك عبوراً إلى الطعن بالشخص نفسه و التشكيك بنواياه .

          و يا لشناعة المنظر و بؤس المشهد حين تجد شخصاً ينظر و يفلسف لقضية رمي الآخرين من ملته بالإنحراف ، نعم فالأمر أصبح له فنون و تطور عما كان عليه في الأمم السالفة البدائية في هذا المجال ، ترقى لطراز جديد يواكب ما نحن عليه من تطور و تخلف في الوقت ذاته ، ففنون المحاكمة العقلية باتت محكومة بأطر و أبعاد متدرجة  و أنواع ، و كل هذا بعيد عن مراد الله المتجلي في كتابه الكريم الداعي إلى الفهم و المناقشة و المحارب لأفعال الجاهلية المتمثلة بالسباب و الشتم و الاستهزاء و التكبر و إن وجدت مناقشة فهي محكومة بمعارفهم و قواعدهم الشخصية التي يجب أن يلتزم بها النبي أو حتى الوصي ! .

          و مع أن القرآن الكريم فصل في هذه المسألة أدق التفصيل و بين أكمل البيان إلا أن البعض يأبى إلا أن يقحم رأية في هذا الموضوع على الرغم تصريح رب العالمين في كتابه قائلاً ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) فالأعلم أحق يُسأل ! ، ولنا في نبي الله إبراهيم المتدبر خير مثال حين تفكر في ديانة من يعبد الشمس و القمر و الكواكب و و نقدها و فندها بما هو قطعي ! ، حتى النبي ص على الرغم مما وصل له من يقين إلا أنه كان يستعمل أسلوباً راقياً في الحوار ( وأنا او إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) فهذه الآية كفيلة بأن تكشف لنا رقي النبي ص في حواره بجعل الدليل هو الحاكم و هو ما جعل الكفار في موقف حرج فهم يفتقرون له ! .

           و لو تدبرنا ما نقرأه من آيات في صلاتنا لفهمنا الكثير من التفاصيل و توقفنا عن رمي الناس بالضلال و الإنحراف و انشغلنا بتقويم أنفسنا ابتداءً ، فالقرآن الكريم يضع قاعدة أساسية ننطلق منها لطلب الحق ابتداءً بإيجاد الصراط المستقيم وانتهاء بترك سبيل المغضوب عليهم و الضالين ( صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم و لا الضالين ) ما يشير إلى أن الصراط المستقيم هي منهجية معصومة تقوم الفهم و لنا أن نرجع إلى أهل البيت ع ليبينوا لنا هذه المنهجية الداعية إلى الصراط المستقيم ، فقد ورد عنهم ع : ( من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم ) فهذا المنهج و الأسلوب في التفكير القائم على عملية رد المتشابه إلى المحكم هي العملية المثلى التي تتحصل بها الهداية إلى صراط مستقيم و ما سواها سبل متفرقة ( وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) فلنتدبر بعض من قبسات الكتاب حول هذا الجانب :

          لنتدبر بعض من ذكرهم الله كنماذج للـ(المغضوب عليهم و الضالين ) كالآية الكريمة ( وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بانهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) نجدها تجرنا لمعرفة من اختار الصد عن سبيل الله و محاربة الحق فهم الذين يقدسون و يطيعون ما تشتهي أنفسهم و يصدون عن الحق الذي ينافي رغباتهم و أهواءهم ، حتى و إن أعلنوا إيمانهم إلا أنهم يحملون حسيكة النفاق (ويعذب المنافقين والمنافقات ... وغضب الله عليهم ولعنهم ) و الإيمان الكاذب الذي سرعان ما يظهر بتقلب الأحوال و الفتن فيتظاهر في فلتات لسان بني اسرائيل مثلاً حين عبروا عن رغبتهم لموسى ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ) و سرعان ما تجلى شوقهم لموروثهم الذي ولدوا عليه  و فضحوا ما تخفيه سرائرهم برغبتهم بإله جديد غير الذي هلك - فرعون - عبارة عن صنم مادي ملموس يقدسونه و يعبدونه و يبدو أن السامري قد لمس هذا الحب و الشوق لذلك التقديس و حقق رغبتهم حين غاب موسى ع عنهم فصنع لهم عجلاً له خوار كما رغبوا هم و كانت النتيجة كما أراد السامري فعلاً ( قالوا سمعنا وعصينا واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يامركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ) والتعبير( أشربوا ) يدل على شدة حبهم وتعلقهم به فهو ما يرضي رغباتهم و أهواءهم و موروثهم و مكتسباتهم السابقة فكانت النتيجة هي ذاتها التي تتكرر مع كل قوم يبعث لهم نبي و هي أحد العقبات الكبرى التي تقف أمام الإنسان للإيمان و هي مكتسباته و موروثه الذي يولد عليه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ، و نرى آيات التوبيخ لهؤلاء كثيرة نذكر منها ( قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ) فهذا الصنف المغضوب عليه علاوة على رفضه للتخلي عن موروثه الخاطئ الذي لم ينزل الله به من سلطان فهو يقيم أي دعوة جديدة وفق مقاييسه و أسسه هو لا كما يريد الله جل و علا ، و الأدهى و الأمر من ذلك هو نسبة هؤلاء أفعالهم إلى الله و ان ما يقومون به هو مراد الله منهم دون تدبر ولا تأمل تعالى الله عنهم علواً كبيرا ( وان منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) ، إذ لا حق إلا بآلة الحق التي تعبر عن مراد الله عزوجل  .

          كذلك من عبر عنهم الله في كتابه ( إن الذين كفروا بعد ايمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ) فهم من آمنوا ثم كفروا من بعد إيمانهم لعدة أسباب يرجع أصلها إلى الفسوق و عدم طهارة النفس ( و ما يضل به إلا الفاسقين ) و هي الأرضية الخصبة لوساوس الشيطان ( ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدا ) فيستغل بعض نقاط الضعف في النفس ليضل الإنسان عن ربه و عن دينه و الشواهد كثيرة في التاريخ ، نذكر منها بلعم بن باعوراء الذي تعلم من اسم الله الأعظم ، و حين أغري بالمال أراد أن يدعو به على حجة الله على عباده نبي الله موسى فدلع لسانه ، كذلك برصيصة العابد مستجاب الدعاء الذي جره الشيطان للزنى و كانت هي مفتاح ضلاله ! و لو كان محصناً من هذا الجانب لما جره الشيطان من خلال نقطة ضعفه هذه ، كذلك حب المال و السلطة و حب الذات و غيرها من الأمراض النفسية - المتكونة أيضاً من مكتسبات الإنسان و غرائزه - التي يتحرك الشيطان لتحفيزها و إظهارها لتكون دافعاً للضلال و الإضلال وهذا مصداق للآية الكريمة ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) فظلموا أنفسهم بزيغهم ( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ) .

          هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بزيغهم فعميت أبصارهم فأصبحوا لا يفقهون ! (أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) لذلك حتى ولو كانوا يلوون ألسنتهم بالكتاب فلي الألسن يكون بغير علم و لا هدى و لا دراية إنما ابتغاء الفتنة و قلب الأمور لصالح إلههم الأوحد - الهوى - وينكشف هذا الأمر من خلال تأمل الآيتين المتناظرتين ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم ...) ، (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الامور ) فيقلبون الخاص ليكون عاماً و يدفعون المحكم بالمتشابه ليحسبه الناس أنه مراد الله و ما هو بمراد الله !

         نستنتج من خلال العرض السابق و استنطاق آيات الكتاب بأن تكليف الإنسان هو معرفة نفسه و إصلاحها و السعي للصراط المستقيم بمعرفة المنهجية الضابطة الحقة اليقينية التي أراد الله من عباده سلوكها و بها يجتنب سبل المغضوب عليهم و الضالين و يحاججهم على بينة فيبهتهم كما بهت الذين كفروا من قبلهم .
و إلى حلقة قادمة نلتقي بكم على خير

ليست هناك تعليقات: