السبت، 4 يونيو 2011

العقل و الإيمان بالغيب







بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين





ابتعدت طويلاً عن عالم التدوين بسبب كثرة البدائل فمواقع الفيس بوك و تويتر سرقت الأضواء عن التدوين لكن كما نقول في اللهجة الدارجة "اللي ماله أول ماله تالي" :) ، فأحببت أن أعود بمقال وعدت فيه أحد الأخوة قبل أيام.



تحدثت سابقاً بشكل جداً مبسط عن موجة العلمانية و دخولها لعالمنا العربي واستعرضت مجموعة من آراء بعض المنظرين (إن صح التعبير) للعلمانية في مجتمعنا العربي ، لفت نظري حوار دار في موقع تويتر حول الغيبيات و مدى استيعاب العقل لهذه الغيبيات و لهل للعقل القدرة على التفكير في ذات الله و إن لم يكن له القدرة فكيف تكون له القدرة على استيعاب الأمور الغيبية وإثبات وجودها.



فأحببت أن أناقش الموضوع هنا في مدونتي..



في البداية ولكي نبتعد عن خلط الأوراق لنرتب الأفكار ، جميعنا نعلم و ندرك "الكلام اللي درسناه في المدارس" أن لابد لكل مخلوق خالق ولابد لكل موجود واجد ولكل مصنوع صانع فهذا الكون لم يوجد اعتباطاً أو صدفة فلا بد لهذا الكون من واجد ، وهذا أحد الاختلافات بين المتدينين بشكل عام و الملحدين حيث يقول بعض الملحدين أنه ليس بالضرورة ربط كل ما نجهل بـ"الله" فصحيح نحن لا نعلم كيف وجد الكون لكن لا بد من وجود دليل علمي وليس غيبي .



أولا الغيبيات أمر واقع حسب رأيي لا يمكن الفرار منه فالعقل محدود بحدود المجال الذي صنع من أجله كمخلوق في إطار هذا الكون ، وكما نعلم جيداً و يعلم العلمانيين و الملحدين بأن للعقل قدرة معينة لا يمكن أن يتجاوزها فنضرب مثال للتوضيح ، إذا جلس شخص في غرفة مغلقة تماماً و معزولة عن الصوت في الخارج فلا يستطيع عقل الإنسان أبداً إدراك ما يحدث في الخارج لكن إذا وضع في غرفة أخرى مشابهة ولكن هذه المرة دون عزل الصوت ، هنا يستطيع الإنسن معرفة بعض التفاصيل التي تجري في الخارج .



من خلال هذه التجربة البسيطة تتحدد إمكانية العقل و مدى إدراكه للأمور في هذه الدنيا ، وإذا خرجنا من نطاق التجربة إلى واقع الحياة فالعقل لا يستطيع أن يفسر ظاهرة متكررة تحدث يومياً وهي الموت ! ، ماذا يعني الموت عملياً ؟ هل يستطيع الإنسان تجربته عملياً ؟ ثم ماذا بعد الموت ؟ هل لعقل أي إنسان سواء كان مؤمن بدين أو ملحد أن يتصور كيف يكون الموت ؟! ،،،



إن عدم إيمان الملحدين بالغيبيات جرهم إلى أمر نراه مضحكاً للغاية وهو التجميد !! ، بعض البشر يدفعون مبالغ تصل إلى 28 ألف دولار* حتى يتم تجميدهم !! ، فلعدم إيمانهم بحقيقة وجود الروح وهي أمر غيبي جرى في إعتقادهم أن الإنسان لا يموت إلا بعد استهلاك الجسم أو حدوث خلل يؤدي إلى الموت كما اشتهر عن أحد العلماء مقولة " إني لا أؤمن بوجود الروح إلا إذا اكتشفتها تحت مشرط التشريح" ، و بالنتيجة هم الآن جثث موتى مجمدة بلا روح !!



لذلك نخرج بالنتيجة التالية هو أن العقل يؤمن بالغيبيات التي يدركها من خلال توصله إليها بنفسه أولاً كما ذكرنا في تجربة الغرفة المغلقة حين توصلنا لنتيجة أن من خلال هذا الصوت ندرك أنه يوجد حركة في الخارج و حياة و بشر كله من خلال هذا الصوت فقط ، فمن الحماقة أن لا يقودنا هذا العقل إلا لحقيقة واحدة وهي أنه يوجد صوت فقط لاغير ! فللصوت مصدر وطبيعة عقل الإنسان التحليل و الاستنتاج على حسب المعطيات التي يتلقاها ، ثم يتم توجيه هذا الفهم حسب الدين فخير موجه لإدراك العقل بوجود الغيب هو الدين الإسلامي حسب تعاليم أهل البيت صلوات الله عليهم بحسب معتقدي الشخصي ،،



حين نأتي للذات الإلهية حسب مفهوم العقل القاصر الذي يدرك و يحلل حسب ما يلتمسه من معطيات ، و عندما نقول أنه ليس بإمكان العقل أن يحلل ويستنتج ويناقش في الذات الإلهية فهو للأسباب التي ذكرناها ، عقلنا لا يستطيع معرفة كل التحركات في الخارج من خلال الصوت فقط !!



كذلك فإن الذات الإلهية منزهة عن مشابهة المخلوقات ، فالإنسان الذي يصنع كوب فليس بالضرورة أن هذا الكوب يشابه الإنسان -_- لكن من البديهي أن هناك بشر صنع هذا الكوب ...



من أروع ما قيل في الذات الإلهية على لسان أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب في نهج البلاغة : "الحَمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ، وَلاَ يُحْصِى نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ، وَلاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ المُجْتَهِدُونَ، الَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ، الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَلاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ، وَلاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ، وَلاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ. فَطَر الْخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ، وَنَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَوَتَّدَ بالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِه.



أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإخلاص لَهُ، وَكَمَالُ الإخلاص لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوف أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ. فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ، وَمَنْ أَشَارَ إلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ. وَمَنْ قَالَ «فِيمَ ؟» فَقَدْ ضَمَّنَهُ ، وَمَنْ قَالَ «عَلاَمَ ؟» فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ. كائِنٌ لاَ عَنْ حَدَث ، مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَم. مَعَ كُلِّ شيء لاَ بِمُقَارَنَة، وَغَيْرُ كُلِّ شيء لاَ بِمُزَايَلَة ، فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ والآلة بَصِيرٌ إذْ لاَ مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ ، مُتَوَحِّدٌ إذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بهِ وَلاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ.



خلق العالم



أَنْشَأَ الْخَلْقَ إنْشَاءً، وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً، بِلاَ رَوِيَّة أَجَالَهَا، وَلاَ تَجْرِبَة اسْتَفَادَهَا، وَلاَ حَرَكَة أَحْدَثَها، وَلاَ هَمَامَةِ نَفْس اضْطَرَبَ فِيهَا. أَحَالَ الأشياء لأوقاتها، وَلأمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وَغَرَّزَ غَرائِزَهَا، وَألْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا ، عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا ، مُحِيطاً بِحُدُودِها وَانْتِهَائِهَا، عَارفاً بِقَرائِنِهَا، وَأَحْنَائِهَا (أجنائها). ثُمَّ أَنْشَأَ ـ سُبْحَانَهُ ـ فَتْقَ الأجواء، وَشَقَّ الأرجاء وَسَكَائِكَالْهَوَاءِ، فَأَجْرَى (أجاز) فِيهَا مَاءً مُتَلاطِماً تَيَّارُه ُمُتَرَاكِماً زَخَّارُه . حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، واَلزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ، فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ، وَقَرَنَهَا إلَى حَدِّهِ. الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيقٌ، وَالْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ. ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا، وَأَدَامَ مُرَبَّهَا، وَأَعْصَفَ مَجْرَاها، وَأَبْعَدَ مَنْشَاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ، وَإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السَّقَاءِ وَعَصَفَتْ بهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ. تَرُدُّ أَوَّلَهُ إلَى آخِرِهِ، وَسَاجِيَهْ (ساكنه) إلَى مَائِرِهِ، حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ، وَرَمَى بالزَّبَدِ رُكَامُهُ، فَرَفَعَهُ في هَواء مُنْفَتِق ، وَجَوٍّ مُنْفَهِق، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَاوَات، جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً، وَعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَسَمْكاً مَرْفُوعاً، بِغَيْرِ عَمَد يَدْعَمُهَا وَلاَ دِسَار يَنْظِمُهَا. ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَواكِبِ، وَضِيَاءِ الثَّواقِبِ، وَأَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً ، وَقَمَراً مُنِيراً في فَلَك دَائِر، وَسَقْف سَائِر، وَرَقِيم مَائِر".**



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


** الخطبة الأولى في كتاب نهج البلاغة